الأحد، 24 سبتمبر 2017

أليكسيا: عَمَى الكلمات المفزع الذي قد يصيب أي شخص!

أنت مستلق على الأريكة في صالون منزلك وقد غرقت في نوم عميق. لم تكن لتفوت فرصة الحصول على بعض الراحة بعد تناول الغذاء وفي انتظار كوب الشاب الثقيل؛ وعلى الأرجح تتواطيء معك زوجتك وتؤخر إعداده حتى جلي الأطباق حتى تحصل أنت على دقائق إضافية صافية من الغياب التام عن الوعي. أنت تحلم الآن … تحلم بأنك في حديـ ….

“أبي! أبي! هلا قرأت لي هذه الجملة؟!”

تفتح عينيك لتجد ابنتك الباسلة بينما تنغزك بقلم الحبر الأزرق كي تستيقظ سريعًا. الشخبطة والنقاط المتعددة على قميصك تعني أن ابنتك تحاول إيقاظك منذ أيام. حسنًا، حسنًا … ماذا تريدين أيتها الشقية التي أعشقها؟!

“هلا قرأت لي هذه الجملة؟!”

الطلب المعتاد. هناك ذلك الفرض المدرسي بالتدرب على نطق كلمة أو جملة ما بالإنجليزية او الفرنسية، ولحسن الحظ أنت تجيد كليهما. هكذا تلتقط الكتاب المدرسي المألوف وتطالع الصفحة التي أشارت لك عليها ابنتك. ها نحن ذا ….

“ما هذا؟! هل صرت تدرسين اليوغوسلافية؟! لا أعلم كيف تبدو الحروف باليوغوسلافية لكن لابد وأنها تبدو كتلك المرسومة في كتابك عزيزتي!”

تنظر إليك ابنتك في غل بينما تفكر بأنك تتهرب على الأرجح من مساعدتها. لا تكرر طلبها وتنصرف سريعًا. إن أطفال اليوم ذو مزاج غريب حقًا ولا يقبلون المزاح. تلتقط هاتفك المحمول لتطالع صفحتك الشخصية على فيسبوك لكنك تجد أن جميع المنشورات والأخبار على صفحتك مكتوبة بنفس الحروف الغريبة بلا معنى. هل للأمر علاقة ما بتحديث النظام الأخير على الهاتف؟ وماذا عن كتاب ابنتك؟

تعتدل لتجلس وتذهب بنظرك إلى أرفف مكتبتك الصغيرة حيث تستقر المجلدات الثقيلة ذات العناوين المذهّبة الضخمة. هذه كتبك المفضلة من التراث العربي … لماذا تحولت كل الحروف إلى اليوغوسلافية؟! ماذا يجري هنا؟! تفتح التلفاز. هذه قناة الأفلام القديمة المفضلة لديك؛ أنت تعلم شعارها جيدًا وموسيقى الفاصل الإعلاني الذي تشاهده الآن بالفعل. لماذا إذن يكتبون باليوغوسلافية ما يجب أن يكون “فاصل ونعود”؟!

هل لا زلت تحُلم؟ هل هو كابوس ما؟!

 

في الواقع هذا ليس كابوسًا، بل هو أسوأ! هذا تمامًا ما يحدث للمصابين بعمى الكلمات Word Blindness لأول مرة …

أليكسيا وديسليكسيا!                                                           

ديسليكسيا Dyslexia كلمة يونانية الأصل مكونة من مقطعين الأول هو “Dys” وتعني صعوبة، والثاني “lexia” وتعني الكلمة المقروءة. هكذا يصبح لدينا “العُسر القرائي” أو “تعذر القراءة العمهي” كحالة مرضية، وأول من استخدم هذا المصطلح هو عالم الأعصاب الفرنسي رودلف بيرلين Rudolph Berlin عام 1872.

يُعرّف العسر القرائي Dyslexia بأنه اضطراب في القراءة ذو منشأ عصبي خارج نطاق أية إعاقة عقلية، أو حسية، و غير مرتبط بعوامل ثقافية، أو بيئية، أو بعدم الرغبة في الدراسة؛ حيث يكون معدل الذكاء لدى الشخص عادي أو فوق العادي ولا علاقة له بالتخلف العقلي، بل على الأغلب يكونوا مبدعين في مجالات أخرى مثل الرسم، أو النواحي الحرفية، لذا يُشار إليها بأنها الإعاقة المختفية (Hidden Handicap).

لكن العُسر القرائي ديسليكسيا لا يظهر بغتة كما السيناريو الذي قرأناه بالأعلى، ويتخذ علامات أخرى تتمثل في تعسر القراءة والخلط بين الحروف المتشابهة في الشكل مثل ب، ت، ث أو حذف بعض الحروف من الكلمات أو مقاطع كاملة منها فيقرأ المريض بالديسليكسيا “منزل” بدلًا من “منازل” أو “ولد” بدلًا من “والد” أو قلب مقطع من الكلمة فيقرأ “كوافه” بدلًا من “فواكه”. لا داعي للقلق حيال ابنك الذي يقول “مورحة” بدلًا من “مروحة” لأنه لا يقرأ هنا وإنما يتكلم. المصاب بالديسليكسيا يعلم أن “فواكه” تنطق بالترتيب الصحيح “فواكه” ويقولها بشكل سليم عند الحديث بشكل عفوي، لكنه يخطيء متى قرأها مكتوبة.

أليكسيا أو عمى الكلمات حالة مختلفة قليلًا مع أنها أحد أشكال ديسليكسيا، حيث تعتبر إعاقة مكتسبة وليست وراثية قد تنتج عن سكتة دماغية أو ارتجاج بالمخ، وهو ما يعني أن أي شخص قد يصاب بها في أي وقت عكس الديسليكيسيا التي يتم تشخيصها في السنوات الأولى من العمر عند الدراسة. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فمن الشائع أن يعاني المصاب بعمى الكلمات بالحبسة Aphasia (عدم القدرة على التحدث بجمل كاملة) والأغرافيا Agraphia (عدم القدرة على الكتابة). هكذا لا تبدو الكلمات لعقلك وكأنما مكتوبة باليوغوسلافية، بل تصير أنت شخصيًا تكتب بالحروف نفسها غير المفهومة وغريبة المظهر!

هذه متلازمة مفزعة … أن تنقطع صلتك عن الاتصال بكل من وما حولك قراءة وكتابة وأحيانًا حتى نطقًا! وللأسف ليس هناك علاج كامل وناجع لأليكسيا؛ فقط هناك طرق للمساعدة في التعايش معها.

هوارد إينجل                                                                    

كما سبق وقرأت بالأعلى، فعمى الكلمات قد يحدث لك شخصيًا دون إنذار. وبينما تصب لعناتك علىّ للفأل السيء، فلتنظر معي الحالة الغريبة لهوارد إينجل Howard Engel على سبيل المثال.

 هوارد أديب كندي، أصيب بسكتة دماغية أثناء نومه في 2001 واستيقظ مصابًا بأليكيسيا … عمى الكلمات. السكتة الدماغية أتلفت الجزء الحيوي من المخ الذي نستخدمه عندما نقرأ، وهكذا لم تعد الحروف أو الكلمات ذات معنى له. هذه الفاجعة تمثل أسوأ كوابيس أي كاتب أو أديب كما لكم أن تتخيلوا.

من حسن الحظ أن هوارد لم يصاب بالأغرافيا، فكان باستطاعته الكتابة. هل تتخيلون الحالة الغريبة لهوارد هنا؟ إذا طلبت منه كتابة أي شيء تمليه عليه سيفعل بلا أي مشكلة؛ لكن اطلب منه بعدها قراءة ما كتبه بشكل صحيح ولن يستطيع قراءة ما خطته يداه! هذه من المرات النادرة التي يتصرف بها العقل بشكل يبدو كأنما بشخصيتين مختلفتين؛ لكن هوارد لم يستسلم لحالته المستحيلة هذه وحاول تطوير بعض الطرق لاستعادة قدرته على القراءة مجددًا.

للقيام بهذا بدأ يتحرك بأصابعه على الأحرف للتعرف عليها، ثم أخذ يرسمها في الهواء كي بعقله ويتعرف عليها، وأخيرًا صار يتتبع الحروف ويميز بينها بلسانه! التحدي هنا هو أن الجزء الذي يقرأ الحروف في مخه معطل؛ لذا كان عليه أن يقرأ الحروف والكلمات دون أن يقرأها! هذا أشبه أن ترى الموسيقى عبر الاستماع لنوتة مكتوبة. الموسيقيون الأفذاذ يسمعون الموسيقى بينما يخطون النوتة وقبل أن ينفخ أحدهم مزمارًا أو يضرب على مفاتيح بيانو، وهكذا فعل هوارد لكن مع الكلمات بشكل معكوس.

ومن المدهش أن تلك الطريقة الأخيرة كانت ناجحة وسريعة بالنسبة لهوارد؛ حيث تعلم أن يقرأ بلسانه بأن يرسم شكل الحرف بطرف لسانه على أسانه الأمامية قيتعرف عليه! بالطبع تبدو طريقة مستحيلة يصعب علينا فهمها، لكن دعوني أخيركم أن هوارد بلغ من إتقانها أن صار بإمكانه قراءة ترجمة الأفلام الأجنبية على الشاشة بكفاءة وسرعة بلسانه! وقد سجل هوارد تلك التفصيلة ضمن تفاصيل أخرى مدهشة في روايته التي كتبها لاحقًا باسم “كتاب الذاكرة Memory Book” في 2005؛ حيث يعاني البطل “بيني كوبرمان Benny Cooperman” من حالة ارتجاج عنيف بالمخ تصيبه بأليسكيا شبيهة بتلك التي عانى منها هوارد في الحقيقة؛ ثم أتبعها بروايتين للبطل نفسه يستعرض فيهما الصعوبات التي واجهها أثناء فترة التعافي من السكتة الدماغية.

Embed from Getty Imageswindow.gie=window.gie||function(c){(gie.q=gie.q||[]).push(c)};gie(function(){gie.widgets.load({id:’Nl5DsbC7T-dDxXIfXaQAvA’,sig:’mJcq3TnjxvrX8DumnPiczWzN9hcmzd7ZU064JPd2aCw=’,w:’435px’,h:’594px’,items:’502323905′,caption: true ,tld:’com’,is360: false })});//embed-cdn.gettyimages.com/widgets.js

وفي فبراير 2007، حصل هوارد على وسام الدولة الكندي Order of Canada في الاحتفالية المئوية للتنصيب بالوسام، وأعقبها في 2013 بالفوز بوسام اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية Queen Elizabeth II Diamond Jubilee Medal!

عمى الكلمات، أليكسيا، حالة مرضية مخيفة لا يطيق المرء حتى التفكير بها، لكن من العظيم كذلك أن نتأمل تجربة هوارد إنجل معها للتعرف كيف تمكن من هزيمة ذلك المرض، وكيف يمكن لأي أحد أن يكرر الانتصار نفسه وربما ما هو أبعد بالإرادة.
مراجع
Wikipedia 1  2  3  4   – mayoclinic  – goodreads  – npr

رابط المقال الأصلي: أليكسيا: عَمَى الكلمات المفزع الذي قد يصيب أي شخص!.

عالم الإبداع: http://bit.ly/2xkmjpa

fromعالم الابداع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق