الجمعة، 27 أكتوبر 2017

عن نجوم ثورن – زيتكوف المدهشة التي تحوي نجومًا أخرى تدور بقلبها!

الكون مكان ساحر بمعنى الكلمة بما يحويه من كيانات وأجسام مهولة تفعل كل شيء تقريبًا. بهذا المكان مترامي الأطراف، غامض النشئة والنهاية، يمكنك تخيل أي سيناريو متطرف قد يكسر قواعد الفيزياء كما نعرفها ثم تنتظر أن يكشتفوا يومًا ما أن هذه الفكرة المجنونة أو تلك موجودة بالفعل.

ماذا عن عوالم بأكثر من شمس كما تحدثت روايات الخيال العلمي القديمة؟ عن بالوعات شريرة غير مرئية تمتص كل شيء ولها يضطرب نسيج الكون نفسه؟ عن حساء من مادة النجوم؟ عن كواكب تمطر ألماسًا؟

ماذا عن نجوم هجينة، يحوي الواحد منها نجمًا آخر يدور بداخله؟! فكرة مجنونة غير معقولة، أليس كذلك؟ في الواقع ليست أكثر جنونًا من الحقائق بالسطور بالأعلى، والمدهش أن العلماء فعلوها مجددًا وأثبتوا وجود مثل هذا الكيان الساحر بالفعل! لقد عثر العلماء على الكنز أخيرًا … بعد 40 عامًا من البحث!

فلنكتشف نجمًا هجينًا ونطلق عليه اسمينا!

ماذا لو افترضنا أن يقوم نجم ما بابتلاع نجم ما آخر؟! حسنًا، فلنفترض كذلك أنه كي يحدث هذا فلابد أن يكون النجم الأول يحتضر كي يكون كبيرًا بما يكفي لابتلاع نجم أصغر خامد بالفعل. ما هو النجم الذي يملك أكبر قطر بين النجوم في الكون وأي النجوم يعد ميتًا بالفعل؟ النجم الأحمر العملاق والنجم النيوتروني بالطبع! وهذا هو ما افترضه تمامًا كلًا من الفيزيائي كيب ثورن Kip Thorne وعالمة الفيزياء الفلكية آنا زيتكوف Anna Zytkow في عام 1975، واتفقا أن يطلقا عليه اسم جسم ثورن- زيتكوف Thorne-Zytkow object أو ما صار يعرف لاحقًا بـ TZO اختصارًا.

وفقًا لفرضية ثورن وزيتكوف، يمكن لهذا الجسم النادر للغاية أن ينشأ في الأنظمة النجمية الثنائية والتي تحوي نجمين كما أوردنا، أحدهما أحمر عملاق والثاني نيوتروني. النجوم النيوترونية Neutron stars ما هي إلا جثث كثيفة لنجوم ماتت بالفعل، بيما النجوم الحمراء العملاقة  Red supergiants هي نجوم تحتضر هي الأكبر قطرًا بين النجوم التقليدية في الكون، بقطر يتراوح بين 200 إلى 2000 مرة ضعف قطر الشمس. النجوم الحمراء العملاقة من الضخامة أنك إذا وضعت إحداها مكان شمسنا، فستبتلع كل شيء حتى حدود زحل أو ما بعده كذلك!

كيف يتم الأمر إذن؟ ما يعتقده العلماء هو أن العملاق الأحمر يبتلع نجمًا نيوترونيًا صغيرًا في البداية، حيث يدور الأخير حول نفسه في مدارات متناقصة القطر داخل الأول حتى يصل إلى قلب العملاق الأحمر ويستقر بمركزه كنواته. متى تم هذا، يكستب النجم قشرة حامية منصهرة حول القلب النيوتروني في المركز، وبها تندمج العناصر وتتولد عناصر أخرى ثقيلة. فكما تعلمون، فالنجوم ما هي إلا مصانع عملاقة للعناصر، حيث يندمج الهيدروجين لينتج الهيليوم، وينتدمج الهيليوم لينتج البيرليوم beryllium، وهكذا تندمج العناصر وتنصهر لتنتج أغلب عناصر الجدول الدوري كما نعرفه حتى ننتهي إلى الحديد.

هنا يجب أن تبدو نجوم ثورن – زيتكوف كعملاق أحمر لامع للراصد، كونه هو النجم الأكبر الذي يتصدر المشهد. مع هذا، فتركيب TZO الفريد يجعله ينتج كميات غير معقولة من عناصر الروبيديوم rubidium، السترونتيوم strontium، الإيتريوم yttrium، الزركونيوم zirconium، الموليبدينوم molybdenum والليثيوم lithium. هذا ما يميز نجوم ثورن- زيتكوف ويقدم طريقة لرصدها بما أنه لا يمكن رصدها مباشرة بالمشاهدة، حيث يستغل العلماء معرفتهم بتركيب هذه العناصر كي يتعرفوا عليها عبر قياس طيف الضوء الفريد بكل منها. هكذا تنبأ كلًا من كيب ثورن وآنا زيتكوف عندما أعلنا عن نظريتهما المجنونة في 1975؛ وانتظر الجميع حتى يستطيع أحدهم رصد أول نجم TZO بالطريقة نفسها … فقط طال الانتظار 40 عامًا!

في مجرة بعـ … ليست بعيدة!

ظلت نجوم ثورن – زيتكوف TZO أقرب لأشباح كونية تدور الأقاويل حول وجودها بلا دليل واحد على ذلك بالفعل منذ أن قدّم ثورن وزيتكوف نظريتهما في 1975. الجميع يبحث عنها لكن بلا أثر، وظل الوضع هكذا حتى 2014 عندما رصد العلماء عملاق أحمر بتركيب كيميائي مثير ومختلف للغاية. هل عثرنا على الكنز المفقود أخيرًا؟!

النجم المرشح كي يكون جسم ثورن – زيتكوف الأول على الإطلاق في تاريخ الفلك يملك اسمًا كوديًا  HV 2112، وهو نجم ضمن سحابة ماجلان الصغرى Small Magellanic Cloud وهي مجرة قزمة لا تبعد عن مجرتنا درب التبانة إلا 199 ألف سنة ضوئية. قد تبدو هذه المسافة مهولة، وهي كذلك في الواقع، إلا أنها تعد صغيرة وقريبة نسبيًا مقارنة ببعد باقة المجرات حولنا، حتى أنه يمكنك رؤية هذه المجرة بالعين المجردة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي. وقد تم التعرف على  HV 2112 وتحديده بعد دراسة طويلة شملت أكثر من 62 عملاًقًا أحمر بالاستعانة بتليسكوب ماجلان كلاي Magellan Clay في شيلي وبالتعاون مع مرصد أباتشي بوينت في نيو ميكسيكو.

همممم، هذا غريب!” كانت تلك هي الكلمات الأولى التي خرجت من فم عالمة الفيزياء الفلكية إيميلي ليفيسك، إحدى المشاركات في الفريق البحثي وراء اكتساف HV 2112.، عندما كانت تراجع البيانات المستقاة من الرصد. تقول إيميلي أنه وعلى الرغم من أن البيانات في ذلك الوقت كانت غير مرتبة بعد وفوضوية قليلًا، إلا أن تحليل طيف الضوء الخاص بهذا النجم كان لافتًا بشكل لا يقبل اللبس. حينها نظرت زميلة إيميلي نيديا موريل Nidia Morrell إلى البيانات وقالت: “أنا لا أعلم ما هذا … لكني أعلم أنه يعجبني!

بمزيد من البحث تيقن الجميع أنهم قد عثروا على الشبح المراوغ أخيرًا، بعدما ثبت احتواء نجم HV 2112 على مستويات غير طبيعية من عناصر الروبيديوم rubidium، الزركونيوم zirconium، الموليبدينوم molybdenum والليثيوم lithium. إن HV 2112 جسم TZO أصلي بلا شك، وخرجت آنا زيتكوف نفسها لتعلن سعادتها برصد أول نجم هجين يحمل اسمها.

لكن الإثارة المتعلقة بنجوم ثورن – زيتكوف ليست لأنها أجسام فريدة تؤكد الفكرة المجنونة لنجم داخل نجم، وإنما تتعدى هذا إلى ما هو أكثر فائدة لنا نحن البشر بمعرفتنا بالكون. فبوجود أجسام TZO صار يتحتم علينا النظر إلى الكون بشكل مختلف بعد إثبات وجود نموذج آخر حول طريقة عمل النجوم واحتراقها لإنتاج الطاقة. فبداخل نجوم TZO، تتولد العناصر ببشكل مختلف وغريب عما عهدناه من قبل وبمعرفتنا لهذه الطريقة ودراستنا لها سنفهم حتمًا كيف يعمل كوننا بشكل أفضل. كل شيء في هذا الكون مخلوق من مادة النجوم، وبداخل أجسام TZO، ربما نعثر على طريقة مختلفة وجديدة تمامًا للكيفية التي تتولد بها تلك المادة.

كيب ثورن … الحالم دومًا!

وأخيرًا وبالمناسبة، ألم يبد لك اسم كيب ثورن مألوفًا؟ أجل، هو تمامًا!

كيب ثورن هو الفائز بجائزة نوبل للفيزياء 2017، مع كلًا من راينر وايس Rainer Weiss، وباري باريش Barry Barish، لإسهاماتهم المدهشة في رصد موجات الجاذبية الثقالية من خلال مرصد LIGO الذي قام وايس بتطوير تقنيته وعمل ثورن وباريش على بنائه.

الصورة التي ترونها بالأعلى هي أول صورة لثورن بعد إعلان فوزه بجائزة نوبل للفيزياء 2017؛ حيث لم يمنح القائمون على جائزة نوبل عالم الفيزياء الأمريكي وقتًا كي يرتدي بذلة رسمية ليلتقط صورة لنفسه ويرسلها إلى اللجنة فور علمه بالفوز؛ بل طلبت منه أن يلتقط الصورة بالملابس التي يرتديها حتى ولو كانت ملابس داخلية أو تي شيرت منزلي عادي! وهو ما فعله ثورن تمامًا!

حاز ثورن على العديد من الجوائز العلمية المرموقة قبل نوبل، وتقلد عددًا من المناصب شملت إدارته لمعهد كاليفورنيا للتقنية، وجامعة ليدن؛ بالإضافة إلى أنه يرأس مع الروسي إيجور نوفيكوف ما يسمى بتجمع علماء كونسورتيوم لتحقيق تقنية تسمح بابتكار آلة للسفر عبر الزمن! لا أمزح هنا على الإطلاق، بل أن العبقري ستيفن هوكينغ يعترف بأن كيب ثورن يعتبر أول عالم جاد يناقش السفر عبر الزمان كاحتمال عملي.

لا عجب إذا علمتم أن المخرج كريستوفر نولان عندما أراد الحصول على معلومات فيزيائية صحيحة ودقيقة كي يبنى تحفته السينمائية “بيننجمي Interstellar” لجأ إلى مساعدة ثورن! ومعًا قاما بإضافة التأثير الخاص للرياضيات والفيزياء ما أدى لإنتاج الفيلم الساحر الذي أشاهده شخصيًا كل شهر مرتين على الأقل!

لطالما أثار ثورن الجدل والخيال بأفكاره ومذهبه العلمي؛ إلا أنه يوضع دومًا في مصاف العباقرة الآخرين من وزن ستيفن هوكينج وكارل ساجان، حيث يتعامل الجميع مع كل ما يطرحه باحترام وتدبر مهما بدت تلك الأفكار مجنونة أو غير منطقية للوهلة الأولى. لذا، كانت المسألة مسألة وقت لا أكثر حتى يثبت العلم أخيرًا صحة فرضيته حول أجسام TZO ولو بعد 40 عامًا!

 

رابط المقال الأصلي: عن نجوم ثورن – زيتكوف المدهشة التي تحوي نجومًا أخرى تدور بقلبها!.

عالم الإبداع: http://bit.ly/2xkmjpa

fromعالم الابداع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق