الخميس، 22 يونيو 2017

المسحراتي … ذكرى أخرى عزيزة تتلاشى!

هناك تلك الطرْقات المميزة للغاية والتي لا نسمعها إلا خلال شهر مبارك بعينه. 5 طرقات تحديدًا بتتابع لا تخطئه الأذن مصحوبة بكلمات تنطلق من جوف الليل…

اصحي يا نايم وحد الدايم، وقول نويت بكرة إن حييت الشهر صايم والفجر قايم! رمضان كريم!

هو المسحراتي العزيز الذي يحبه الجميع! وفي عصرنا الحالي التي طغت الحداثة على كل شيء به، صار نداء المسحراتي وشخصيته الغامضة التي لا يراها أحد – أو بالأحرى لا يكترث أحد برؤيتها حاليًا – أقرب لشيء سحري يستدعيه أحدهم في قلب ليالي رمضان. للكبار هو رابط قديم يتجدد لماضي طفولتهم السعيدة، ولحديثي السن هو شخصية أقرب إلى جاندالف الساحر من عوالم تولكين.

لكن كيف بدأ تقليد المسحراتي على أية حال؟

تاريخيًا، كان بلال بن رباح – أول مؤذّن في الإسلام –  وابن أم كلثوم أول من توليا مهمة إيقاظ النّاس للسّحور. الأول يؤذّن فيتناول النّاس السّحور، والثّاني ينادي بامتناع الناس عن الطعام بعد ذلك فيزعنوا لذلك. لكن أول من نادى بالتسحير بشكله ونمطه الذي نعرفه وهو الطواف على البيوت هو عنبسة ابن اسحاق ســنة 228 هـ وكان يذهب ماشيًا من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص كل ليلة لينادي النّاس بالسحور. أي أنه كان يقطع ما بين 3 إلى 4 كيلومتر كل ليلة بينما يسير على غير عجالة ليوقظ المسلمين بمدينتهم الجديدة في مصر لتناول السحور.

بعدها انتقل التقليد إلى نواحي وربوع مصر، حيث كان المسحراتية في مصر يطوفون في شوارع المدينة أو القرية يرددون الأناشيد الدينية وينادون الناس ليستيقظوا طالبين منهم أن يوحدوا الله، ويضربون على “طار” بضربات متوالية حتى يسمعهم النائمون فيهبوا من نومهم لتناول السحور.  تذكروا أنه في ذلك الوقت لم يكن من منبهات أخرى ولو ميكانيكية لمعرفة الوقت بدقة فضلًا عن التنبيه لأوان معين كالسحور؛ لذا كانت وظيفة المسحراتي حيوية ومهمة للغاية حينها.

المستشرق الإنجليزي إدوارد لين يحكي لنا عن المسحراتى في كتابه “المصريون المحدثون … شمائلهم وعاداتهم”، فيقول…

يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل ممسكًا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه عصا صغيرة أو قطعة من جلد غليظ؛ وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحًا أو قنديلا يضيء له الطريق. يأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثا ثم ينشد، يسمى فيه صاحب البيت وأفراد أسرته فردًا فردًا ماعدا النساء. وإذا كان بالمنزل فتاة صغيرة لم تتزوج يقول “أسعد الله لياليك يا ست العرايس!” ويردد أيضا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرًا من القصص والمعجزات والبطولات عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو زيد الهلالي وغيره.

وفي عهد ابن طولون امتهنت المرأة التسحير‏،‏ وكان يشترط أن يكون صوتها جميلًا‏، وأن تكون معروفة لسكان الحي وتقف وراء النافذة وتنادى؛ كما أن كل امرأة مستيقظة كانت تنادي على جاراتها‏.

كلمات مختلفة بهدف واحد!

ومن مصر انتشرت عادة المسحراتي إلى باقي الدول العربية والإسلامية؛ وكما لكم أن تتوقعوا فقط اختلفت الكلمات والأهازيج التي يلقيها المسحراتي بينما يسير في ظلمة الليل للاستئناس وتنبيه الناس. هكذا ظل الهدف واحد، لكن الطريقة مختلفة بشكل ما.

ففي الأردن مثلًا، يسير المسحراتي حاملًا طبله مرددًا

يا نايم وحد الدايم. يا عباد الله وحدوا الله ..أفلح من قال لا إله إلا الله! يا نايم وحد ربك خلي العالم تحبك! يـا غافي وحّـد الله وحّد مولاك الي خلقك وما بنساك. قوموا إلى سحوركم جاء رمضان يزوركم!

حتى في مصر نفسها، كان المسحراتي قديمًا ينشد بشكل مختلف! حيث كان ينشد القصائد التي يذكر بها النائم على أربع مرات، في الأولى يقول …

أيها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجرى الرياح! إن جيش الليل قد ولى وراح، وتدانى عسكر الصبح ولاح! اشربوا عجلى فقد جاء الصباح!

وفي التذكير الثاني يقول …

تسحروا رضي الله عنكم. كلوا غفر الله لكم! كلوا من الطيبات واعملوا الصالحات!

أما في التذكير الثالث فيقول …

يا مدبر الليالي والأيام، يا خالق النور والظلام! يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام!

وفي المرة الرابعة ينادي …

كلوا واشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح! واذكروا الله في القعود والقيام وارغبوا إليه تعالى بالدعاء والثناء!

Michel Ayoub (R), an Arab-Israeli Christian man carrying out the role of a “Musaharati”, the traditional figure who awakens Muslims for the “Suhur”, the pre-dawn traditional meal before Muslims start their fast during the sacred fasting month of Ramadan, walks in the street with 12-year old Ahmed al-Rihawi hitting a drum to rouse Muslim residents in the northern Israeli port city of Acre on June 16, 2016.
Ayoub’s role as the city’s “Musaharati” is a traditional one during the sacred fasting month, but Ayoub is by no means a traditional holder of the position: He is Christian. The tradition had disappeared from Acre until Ayoub, who usually works in construction, revived it 13 years ago. He says it was his way to preserve his grandfather’s heritage and by carrying on the Musaharati tradition, he says he was “only doing my duty by helping our Muslim brothers who endure hunger and thirst” during the fasting month.
/ AFP / AHMAD GHARABLI / TO GO WITH AFP STORY BY MAJEDA EL-BATSH (Photo credit should read AHMAD GHARABLI/AFP/Getty Images)

شتان كما ترون بين ما فصاحة ما كان يجري على لسان المسحراتي قديمًا بمصر وما يكتفي بترديده المسحراتي الحديث؛ لكن لكل عصر لسان ينطق بحاله للأسف. وفي السعودية وخاصة في مكة المكرمة وجدة، كان المسحراتي، يلف الأحياء والشوارع القديمة، ويردد …

اصحى يا نايم وحد الدايم! ربي قدرنا على الصيام، واحفظ إيماننا بين القوة!

لكن الأمر يختلف في منطقة الأحساء حيث يردد المسحراتي …

اقعد اقعد يا نايم! اقعد اقعد يا نايم، واذكر ربك الدايم! اصحى يا نايم قوم وحد الدايم، سحور ياعباد الله!

أما اليوم فقد بدأت ظاهرة المسحراتي بالتلاشي في السعودية، إذ باتت مقتصرة على عدد قليل من الأحياء والمناطق السعودية. وفي سوريا ينطلق المسحرون بينما ينادوا …

اصحى يا نايم وحد الدايم! السعى للصوم خير من النوم، ليالى سمحة نجومها سبحة، اصحى يا نايم، يانايم اصحى وحد الرزاق! رمضان كريم! يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله، يا ناس قوموا على سحوركم اجا رمضان يزوركم!

وكما ترون فاللهجة المصرية حاضرة بشكل ما دومًا.  أما في تونس، فيطلقون على المسحراتي اسم “أبو طبيلة” والذي يردد…

اصحى يا نايم، وحّد الرزاق وِقول نوِيت بكرة إن حييت الشهر صايم، الفجر قَايم! اصحى يا نايم، وحّد الرزاق! رمضان كريم! سحّر يامسحّراتي، نقر يا منقراتي!

وفي ليبيا، يردد المسحراتي وهو يجوب الشوارع ممسكًا طبلته الصغيرة وعصاه …

سهر الليل يا سهر الليل! عادة حلوة وفعل جميل! اصحى يا نايم، وحِّد الدايم!

وكما ترون، فكلها أهازيج وأنشيد جميلة تثير الحنين داخلنا على اختلاف بلادنا. أضف كذلك تلك العادة المحببة التي كانت لدينا صغارًا، وهو أن ننادي على المسحراتي لنطلب أن يذكر أسماءنا تحديدًا بينما يوقظ الجميع. هذه لحظات مجد كانت تحببنا في الصوم وتفوينا لمواصلة المهمة الشاقة إلى المغرب. كيف لنا أن نفطر والجميع بالحي قد سمعوا المسحراتي ينادينا بالاسم كي نتسحر؟!

ذكرى أخرى عزيزة تتلاشى

لم يكن المسحراتي يتقاضى أجرًا خلال الشهر الكريم، بل كان ينتظر حتى أول أيام_العيد، فيمر بالمنازل منزلًا منزلًا ومعه طبلته المعهودة؛ فيوالي الضرب على طبلته، فيهب له الناس بالمال والهدايا والحلويات ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد. كانت تلك أيامًا مجيدة بالتأكيد لمهنة لم يعد أحد حاليًا يتحمل مشاقها أو المجازفة بالتطوع بها مجانًا بعدما اختفت النظرة القديمة المبجلة للمسحراتي وانعدمت تقريبًا الحاجة إليه بتوفر التكنولوجيا الحديثة.

هكذا كُتب على المسحراتي أن يتحول لذكرى أخرى عزيزة آخذة في الزوال؛ لكن لا بأس، فلا يعاني الفقد إلا من امتلك! هكذا لن يفتقد الجيل الجديد والقادم المسحراتي لأنه ببساطة سيقرأ عنه فقط. هذه معادلة بسيطة وإن كانت غير عادلة.

رابط المقال الأصلي: المسحراتي … ذكرى أخرى عزيزة تتلاشى!.

عالم الإبداع: http://bit.ly/2m7o1HY

fromعالم الابداع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق